فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} يقول: شرك بالله {ويكون الدين} ويخلص التوحيد لله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} قال: الشرك {فإن انتهوا فلا عدوان إلى على الظالمين} قال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن قتادة ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فكان هذا كذا حتى نسخ، فأنزل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي شرك {ويكون الدين لله} قال: حتى يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليها دعا. وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} قال: وإن الظالم الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله، يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله».
وأخرج ابن جرير عن الربيع {ويكون الدين لله} يقول: حتى لا يعبد إلا الله.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة {فلا عدوان إلا على الظالمين} قال: هم من أبى أن يقول لا إله إلا الله.
وأخرج البخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني إن الله حرم دم أخي. قالا: ألم يقل الله {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}.
قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ الله} متعلَّقٌ ب {قاتلوا} على أحد معنيين: إمَّا أن تقدِّر مضافًا، أي: في نصرةِ سبيلِ الله تعالى، والمرادُ بالسبيلِ: دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين، لمَّا كان طريقًا إلى الله تعالى روى أبو موسى: أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، ومجَّد، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم- سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى، فقال: «مَنْ قاتل؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً؛ وهو في سبيل الله».
وإمَّا أن تُضَمِّن {قَاتِلُوا} معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى، {والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم} مفعول {قاتلوا}.
قوله تعالى: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} [البقرة: 191] {حيث} منصوبٌ بقوله: {اقْتُلُوهُم} و{ثِقِفْتُمُوهُم} في محلِّ خفضٍ بالظرف، و{ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: ظَفِرْتُمْ بهم، ومنه: رَجُلٌ ثَقِيفٌ: أي سريعُ الأخذ لأقرانه، قال الوافر:
فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ** فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ

وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً، إذا حذقهُ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه، ومنه الرماحُ المثقَّفة؛ قال القائلُ: الطويل:
ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ** وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ

ويقالُ: ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفًا وثَقَفًا ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ، إذا كان محكِمًا لما يتناوله من الأمور.
قال القرطبي: وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير.
قوله: {مِنْ حَيْثُ} متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في {حَيْثُ} بجَرِّها ب {مِنْ} كما جُرَّت بالياء وفي وبإضافة لَدَى إليها، و{أَخْرَجُوكُمْ} في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه، ولم يذكر لِلْفِتْنَة ولا لِلْقَتْلِ- وهُما مصدران- فاعلًا ولا مفعولًا؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر.
و{عِنْدَ} منصوبٌ بالفعل قبله، و{حَتَّى} متعلقةٌ به أيضًا غايةٌ له، بمعنى إلى والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ والضميرُ في {فِيهِ} يعودُ على {عِنْدَ} إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى إليه الفعلُ إلاَّ بفي؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، وأصلُ الظرفِ على إضمار في اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعُ في الظرفِ، فيتعدَّى الفعلُ على ضميره مِنْ غير في ولا يُقالُ: الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه، فيتعدَّى إليه الفعلُ، فضميرُهُ بطريق الأولى؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ بفي وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه، ولابد مِنْ حذفٍ في قوله: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} أي: فإنْ قاتلُوكُم فيه، فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه.

.فصل: القتال في الحرم:

وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة، وكان مِنْ قبلُ شرطًا في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجيئ إلى الحرم، وقالوا: لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى.
قوله: {كَذَلِكَ جَزَاءُ} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و{جَزَاءُ الكَافِرِينَ} خبرُه، أي: مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقًا، وهو مذهبُ الأخفش.
والثاني: أن يكونَ {كَذَلَكَ} خبرًا مقدَّمًا، و{جَزَاءٌ} مبتدأً مؤخَّرًا، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ، وهو القتلُ، و{جَزَاءُ} مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: جزاءُ اللَّهِ الكافرين، وأجاز أبو البقاء أان يكونَ {الكَافِرِينَ} مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول، تقديرُه: كذلك يُجْزَى الكافِرُون، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك.
قوله تعالى: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لهم.
ومتعلق الانتهاء محذوفٌ أي: عن القتال، وانْتَهَى افْتَعَلَ من النَّهي، وأصلُ {انْتَهَوا} انْتَهَيُوا فاسْتُثْقَلَت الضَّمةُ على الياء؛ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفت الياءُ؛ لالتقاء الساكنين، أو تقول: تَحَرَّكَتِ الياء، وانفتحَ ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ألفًا؛ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفَتِ الألفُ، وبقِيت الفتحة تَدُلُّ عليها.
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} يجوزُ في {حَتَّى} أن تكونَ بمعنى كي وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى إلى وأَنْ مضمرةٌ بعدَها في الحالين، و{تَكُونَ} هنا تامةٌ، و{فِتْنَةٌ} فاعلٌ بها، وأمَّا {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضًا، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ {للَّهِ} بها، وأن تكونَ ناقصةً و{لِلَّهِ} الخبَر؛ فيتعلَّق بمحذوف أي: كائنًا لله تعالى.

.فصل في معاني الفتنة في القرآن:

قال أبو العبَّاس المُقِري: ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ:
الأول: الفتنة: الكُفر؛ قال تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة} [آل عمران: 7] يعني: طلب الكُفْر.
الثاني: الفتنة الصرف قال تعالى: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49].
الثالث: الفتنة: البلاء؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3].
الرابع: الفتنةُ: الإحْرَاقُ؛ قال تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} [البروج: 10]، أي: حَرَّقُوهم؛ ومثله {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13].
الخامس: الفتنة الاعتذارُ قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23].
السادس: الفتنة: القَتل، قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101]، أي: يَقْتُلُوكم.
السابع: الفتنَة: العذَابُ؛ قال تعالى: {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10].
قوله: {إِلاَّ عَلَى الظالمين} في محلِّ رفع خبر {لا} التبرئة، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفًا، تقديرُه: لا عُدْوَانَ على أحد؛ فيكونُ {إِلاَّ عَلَى الظالمين} بدلًا على إعادةِ العامل، وهذا الجملةُ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي، فهي في معنى النَّهي؛ لئلا يلزَم الخُلْفَ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أبْرَزَتْهُ في صورةٍ النفي المَحْضِ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثبات، إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر؛ نحو: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] على ما سيأتي- إن شاء الله تعالى. اهـ. باختصار.

.قال السيوطي:

الفتنة وردت على أوجه:
1- الشرك {والفتنة أشد من القتل}، {حتى لا تكون فتنة}.
2- والإضلال {ابتغاء الفتنة}.
3- والقتل {أن يفتنكم الذين كفروا}.
4- والصد {واحذرهم أن يفتنوك}.
5- والضلالة {ومن يرد الله فتنته}.
6- والمعذرة {ثم لم تكن فتنتهم}.
7- والقضاء {إن هي إلا فتنتك}.
8- والإثم {ألا في الفتنة سقطوا}.
9- والمرض {يفتنون في كل عام}.
10- والعبرة {لا تجعلنا فتنة}.
11- والعقوبة {أن تصيبهم فتنة}.
12- والاختبار {ولقد فتنا الذين من قبلهم}.
13- والعذاب {جعل فتنة الناس كعذاب الله}.
14- والإحراق {يوم هم على النار يفتنون}.
15- والجنون {بأيكم المفتون}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (194):

قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أباح تعالى القتال في كل مكان حتى في الحرم وكان فعله في الأشهر الحرم عندهم شديدًا جدًا ثار- العزم للسؤال عنه فقال معلمًا لهم ما يفعلون في عمرة القضاء إن احتاجوا على وجه عام: {الشهر الحرام} وهو ذو القعدة من سنة سبع إن قاتلتموهم فيه لكونهم قاتلوكم في شهر حرام {بالشهر الحرام} الذي قاتلوكم فيه وهو ذو القعدة سنة ست حيث صدوكم فيه عن عمرة الحديبية. ولما أشعر ما مضى بالقصاص أفصح به على وجه أعم فقال: {والحرمات} أي كلها وهي جمع حرمة وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك {قصاص} أي تتبع للمساواة والمماثلة. اهـ.

.وقال صاحب التحرير والتنوير:

جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها لأنه استئناف بياني؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعني الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها. فإن كان هذا تشريعًا نازلًا على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعو الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم، وإن كان نازلًا على سبب كما قيل: إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألاَّ يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى لما أباح القتال وكان ذلك منكرًا فيما بينهم، ذكر في هذه الآية ما يزيل ذلك فقال: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} وفيه وجوه أحدها: روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العام القابل حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام، والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر وثانيها: ما روي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يقاتلهم في الأشهر الحرم، فأرادوا مقاتلته وظنوا أنه لا يقاتلهم، وذلك قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة، فقال: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه وثالثها: ما ذكره قوم من المتكلمين وهو أن الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله، فكيف يمنعنا عن مقاتلتكم، فالشهر الحرام من جانبنا، مقابل بالشهر الحرام من جانبكم، والحاصل في الوجوه الثلاثة أن حرمة الشهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر والأفعال القبيحة، فكيف جعلوه سببًا في أن يمنع للقتال من شرهم وفسادهم.
أما قوله تعالى: {والحرمات قِصَاصٌ} فالحرمات جمع حرمة والحرمة ما منع من انتهاكه والقصاص المساواة وإذا عرفت هذا ففي هذه الآية تعود تلك الوجوه.
أما على الوجه الأول: فهو أن المراد بالحرمات: الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام فقوله: {والحرمات قِصَاصٌ} معناه أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وقفتم حتى قضيتموه على زعمكم في سنة سبع.
وأما على الوجه الثاني: فهو أن المراد: إن أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضًا، قال الزجاج: وعلم الله تعالى بهذه الآية أنه ليس للمسلمين أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الإبتداء بل على سبيل القصاص، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية، وهو قوله: {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ} [البقرة: 191] وبما بعدها وهو قوله: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ}.
أما على القول الثالث: فقوله: {والحرمات قِصَاصٌ} يعني حرمة كل واحد من الشهرين كحرمة الآخر فهما مثلان، والقصاص هو المثل فلما لم يمنعكم حرمة الشهر من الكفر والفتنة والقتال فكيف يمنعنا عن القتال. اهـ.
وقال القرطبى تبعا لابن عطية: والقول الأوّل أشهر وعليه الأكثر. اهـ.